سورة آل عمران - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{الم اللَّهُ لآَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحىُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ...}
قلت: فواتح السور كلها موقوفة خالية عن الإعراب؛ لفقدان مُوجبه ومقتضيه، فيوقف عليها بالسكون، كقولهم: واحد، اثنان. وإنما فَتَحَ الميم هنا في القراءة المشهورة؛ لإلقاء حركة الهمزة عليها. انظر البيضاوي. قال ابن عباس رضي الله عنه: (الألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مُلكه).
قلت: ولعلَّ كل حرف يشير إلى فرقة ممن توجَّه العتاب إليهم، فالآلاء لِمنْ أسلم من النصارى، واللطف لمن أسلم من اليهود، والملك لمن أسلم من الصحابة- رضوان الله عليهم-، فقد ملكهم الله مشارق الأرض ومغاربها. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: أيها الملك المُعظَّم، والرسول المفخم، بلِّغ قومك أن الله واحد في ملكه، ليس معه إله، ولا يُحب أن يُعبد معه سواه؛ إذ لا يستحق أن يعبد إلا الحيّ القيّوم، الذي تعجز عن إدراكه العقولُ ومدارك الفهوم، فائم بأمر عباده، متصرف فيهم، على وفق مراده، فأعذر إليهم على ألسنة المرسلين، وأنزل عليهم الكتب بياناً للمسترشدين، فنزَّل {عليك الكتاب} مُنَجّماً في عشرين سنة، متلبساً {بالحق}، حتى {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}، أو متلبساً بالحجج التي تدفع كل باطل، أو بالعدل حتى ينتفي به جَوْر كل مائل، {مصدقاً} لما تقدم قبله من الكتب الإلهية؛ إذ هو موافق لما فيها من القصص والأخبار، فكان شاهداً عليها بالصحة والإبرار.
{وأنزل التوراة والإنجيل} من قبله هادياً لمن كُلف باتباعهما من الأنام، أو للجميع، إذا كان شرعُ منْ قبلنا شرعاً لنا- معشر أهل الإسلام-، ثم ختم الوحي بإنزال {الفرقان}، وكلّف بالإيمان به الإنس والجان، فرَّق به بين الحق والباطل، واندفع به ظلمة كل كافر وجاهل؛ وقدَّم ذكره على الكتب؛ لعظم شرفه، وختم به آخراً لتأخر نزوله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لمّا أراد الحقّ جلّ جلاله أن يشير إلى وحدة الذات وظهور أنوار الصفات، قَدَّم قبل ذلك رموزاً وإشارات، لا يفهمها إلا من غاص في قاموس بحر الذات، وغرق في تيار الصفات، فيستخرج بفكرته من يواقيت العلوم وغوامض الفهوم، ما تحار فيه الأذهان، وتكِلُّ عنه عبارةُ اللسان، فحينئذٍ يفقهم دقائق الرموز وأسرار الإشارات، ويطلع على أسرار الذات وأنوار الصفات، ويفهم أسرار الكتب السماوية، وما احتوت عليه من العلوم اللدنية، والمواهب الربانية، ويشرق في قلبه أنوار الفرقان، حتى يرتقي إلى تحقيق أهل الشهود والعيان. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم هدد من كفر بالفرقان، بعد وضوح سواطع البرهان، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}
قلت: الانتقام والنقمة: عقوبة المجرم.
وفعله: نقم؛ القاف وفتحها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين كفروا بآيات الله} المنزلة على نبيه أو على سائر أنبيائه، أو الآيات الدالّة على وحدانيته، {لهم عذاب شديد} يوم يظهر نفوذ الوعد والوعيد، فينتقم الله فيه من المجرمين، ويتعطف على عباده المؤمنين، فإن {الله عزيز} لا يغلبه غالب، ولا يفُوته هارب، {ذو انتقام} كبير ولطف كثير. لطف الله بنا وبجميع المسلمين. آمين.
الإشارة: ظهور أولياء الله لطف من آيات الله، فمن كفر بهم حُرم بركتهم، وبقي في عذاب الحجاب وسوء الحساب، تظهر عليه النقمة والمحنة، حين يرفع الله المقربين في أعلى عليين، ويكون الغافلون مع عوام المسلمين، {ذلك يوم التغابن}. والله تعالى أعلم.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الله لا يخفى عليه شيء} من أمر خلقه، إيماناً أو كفراناً، طاعة أو عصياناً، أحاط علمه بما في السماوات العلي وما في الأرضين السفلى، كليّاً كان أو جزئيّاً، حسيّاً أو معنوياً، يعلم عدد الحصى والرمال، ومكاييل المياه ومثاقيل الجبال، ويعلم حوادث الضمائر، وهواجس الخواطر، بعلم قديم أزلي، وله قدرة نافذة وحكمة بالغة، فبقدرة صَوَّرَ النُّطَف في الأرحام كيف شاء سبحانه من نقص أو تمام، وأتقنها بحكمته، وأبرزها إلى ما يَسَّرَ لها من رزقه، سبحانه من مدبر عليم، عزيز حكيم، لا يُعجزه شيء، ولا يخرج عن دائرة علمه شيء، لا موجود سواه، ولا نعبد إلا إياه، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة: مَنْ تحقق أن الله واحدٌ في ملكه، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وأنه أحاط به علماً وسمعاً وبصراً، وأن أمره بين الكاف والنون، {إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]- كيف يشكو ما نزل به منه إلى أحد سواه؟ أم كيف يرفع حوائجه إلى غير مولاه؟ أم كيف يعول هما، وسيدُه من خيره لا ينساه؟ من دبرك في ظلمة الأحشاء، وصوَّرك في الأرحام كيف يشاء، وآتاك كل ما تسأل وتشاء، كيف يَنْساكَ من بره وإحسانه؟ أم كيف يخرجك عن دائرة لطفه وامتنانه؟ وفي ذلك يقول لسان الحقيقة:
تَذَكَّر جَمِيلِي فِيكَ إِذْ كُنْتَ نُطْفَةً *** وَلا تَنْسَ تَصْوِيرِي لشَخْصِكَ في الْحَشا
وَكُنْ وَاثِقاً بِي في أُمُورِكَ كُلِّها *** سأَكْفِيكَ مِنْهَا ما يُخافُ ويُخْتَشَى
وَسَلِّمْ ليّ الأمْرَ واعْلَمْ بأنني *** أُصَرِّفُ أحْكَامِي وأَفْعَلُ مَا أشا


قلت: {منه}: خبر مقدم، و{آيات}: مبتدأ، فيوقف على {الكتاب}، وقيل: {منه}: نعت لكتاب، وهو بعيد.
قال البن السبكي: المحكَم: المتضح المعنى، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، وقد يُطْلعُ عليه بعضَ أصفيائه. و{هن أم الكتاب}: جملة، وحق الخبر المطابقة فيقول: أمهات، وإنما أفرده على تأويل كل واحد، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. والزيغ: الميل عن الحق. و{الراسخون في العلم}: معطوف على {الله}، أو مبتدأ؛ إن فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد. قاله البيضاوي. و{إذ هديتنا}: ظرف مجرور بالإضافة مسبوك بالمصدر، أي: بعد هدايتك إيانا.
يقول الحقّ جلّ جلاله: إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية، ولا يخفى عليه شيء في العالم العلوي والسفلي {هو الذي أنزل عليك الكتاب} المبين، فمنه ما هو {آيات محكمات} واضحات المعنى، لا اشتباه فيها ولا إجمال، {هن أم الكتاب} أي: أصله، يُرد إليها غيرها، {و} منه آيات {أُخَر متشابهات} أي: محتملات، لا يتضح مقصودها؛ لإجماله أو مخالفة ظاهر؛ إلا بالفحص وجودة الفكر، ليظهر فضل العلماء النُقاد، ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تَدبُرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها، فينال بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها، والتوفيق بينها وبين المحكمات، أعلى الدرجات وأرفع المقامات.
قال في نوادر الأصول: لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين؛ منه ما طوى علمه إلاَّ على الخواص؛ كعلم فواتح السور، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمَنْ دُونَهم، وهو سر القدر؛ لا يستقيم لهم مع العبودية، ولو كُشِفَ لفسدت العبودية، فطواه عن الرّسل والملائكة؛ لأنهم في العبودية، فإذا زالت العبودية احتمولها؛ أي: أسرار القدر. اهـ. ولمثل هذا يشير قول سهل: للألوهية سر- لو انكشف لبطلت النبوة، وللنبوة سر- لو انكشف لبطل العلم، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. اهـ.
قلت: فَتَحَصَّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه. وأما قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ} [هُود: 1] فمعناه: أنها حُفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ، وقوله تعالى: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} [الزُّمَر: 23] معناه: أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ.
ثم إن الناس في شأن المتشابه على قسمين: {فأما الذين في قلوبهم زيغ}: أي: شك، أو ميل عن الحق، كالمبتدعة وأشباههم، {فيتبعون ما تشابه منه}، فيتعلقون بظاهره، أو بتأويل باطل، {ابتغاء الفتنة} أي: طلباً لفتنة الناس عن دينهم: بالتشكيك والتلبيس، ومناقضة المحكم بالمتشابه، {وابتغاء تأويله} على ما يشتهون ليوافق بدعتهم.
رُوِيَ عن عائشة- رضي الله عنها-: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية فقال: «إِذَا رَأَيتُم الذِينَ يَسألُون عن المتشابه منه، ويجادلون فيه، فهم الذين عَنَا الله تعالى، فاحذروهم، ولا تجالسوهم».
{وما يعلم تأويله} على الحقيقة {إلا الله} تعالى، وقد يُطلع عليه بعضَ خواص أوليائه، وهم {الراسخون} أي: الثابتون في العلم، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التوحيد الخاص... فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه، فلم يبق عندهم متشابه في الكتاب ولا في السنة، حال كونهم {يقولون آمنا به}، وصدقنا أنه من كلامه، {كُلّ من عند ربنا}؛ المحكم والمتشابه، وقد فهمنا مراده في القسمين، وهم أولو الألباب، ولذلك مدحهم فقال: {وما يَذَكَّرَ إلا أُولوا الألباب} أي: القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغَبَش الحس.
سُئل عليه الصلاة والسلام: مَن الراسخون في العلم؟ فقال: «من برَّ يمينُه، وصدق لسانُه، واستقام قلبُه، وعفَّ بطنُه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم» وقال نافع بن يزيد: الراسخون في العلم: المتواضعون لله، المتذللون في طلب مرضات الله، لا يتعظمون على مَنْ فوقهم، ولا يحقرون من دونهم. اهـ. وقيل: الراسخ في العلم: من وجُد فيه أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه. اهـ. قلت: ويجمع هذ الأوصاف العارف بالله، فهو الراسخ في العلم كما تقدم.
ويقولون أيضاً في تضرعهم إلى الله: {ربنا لا تزغ قلوبنا} عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى، {بعد إذ هديتنا} إلى طريق الوصول إلى حضرتك، {وهب لنا من لدنك رحمة} تجمع قلوبنا بك، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك، {إنك أنت الوهاب}؛ تهب للمؤمل فوق ما يؤمل. {ربنا إنك جامع الناس ليوم} الجزاء الذي {لا ريب فيه}، فاجمعنا مع المقربين؛ إنك {لا تخلف المعياد} فأنجز لنا ما وعدتنا في ذلك اليوم. وخلف الوعد في حقه تعالى محال. أما الوعد بالخير فلا إشكال، وأما الوعيد بالشر، فإن كان في مُعَيِّنٍ فلا يخلفه، وإن كان في الجملة فيخلفه بالعفو. والله تعالى أعلم.
وقال في النوادر أيضاً: لَمَّا رَدَّ الراسخون في العلم عِلْمَ المتشابه إلى عالمه، حيث قالوا: {آمنا به كل من عند ربنا}، خافوا شَرَه النفوس لطلبها؛ فإنَّ العلم لذيذ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب، ففزعوا إلى ربهم فقالوا: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة}، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة. ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا: {ربنا إنك جامع الناس...} الآية. سكنوا نفوسهم لمجيء ذلك اليوم الذي تَبْطُنِ فيه الحكمة، وتظهر فيه القدرة. اهـ. بالمعنى.
الإشارة: إذ صفت القلوب، وسكنت في حضرة علام الغيوب، تنزلت عليها الواردات الإلهية والعلوم اللدنية، والمواهب القدسية، فمنها ما تكون محكمات المبنى، واضحة المعنى، ومنها ما تكون مجملة في حال ورودها، وبعد الوعي يكون البيان،
{فَإْذَا قَرَأْنَاهُ فَاْتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19]. وقد تكون خارجة عن مدارك العقول. فأما أهل الزيغ والانتقاد فيتعبون المتشابه من تلك الواردات، ابتغاء فتنة العامة، وصرفهم عن طريق الخاصة، وابتغاء تأويله، ليقيم عليه حجة الشريعة، {وما يعلم تأويله إلا الله}، أو من تحقق فناؤه في الله، وهم الراسخون في معرفة الله، يقولون: {آمنا به كل من عند ربنا}؛ إذ القلوب المطهرة من الهوى لا نطق عن الهوى، وهم أرباب القلوب يقولون: {ربنا لا تزغ قلوبنا} عن حضرة قدسك {بعد إذ هديتنا} إلى الوصول إليها، {وهب لنا من لدنك رحمة} تعصمنا من النظر إلى سواك، {إنك أنت الوهاب}.
ربنا إنك جامع الناس. وهم السائرون إليك ليوم لا ريب في الوصول إليه، وهو يوم اللقاء، {إنك لا تخلف الميعاد} فاجمع بيننا وبينك، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك؛ {إنك على كل شيء قدير}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8